كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إيجَابِهِ الْقَوَدَ عَلَى قَاتِلِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أُخْبِرَ بِإِسْلَامِ هَذَا الرَّجُلِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى أُسَامَةَ دِيَةً وَلَا قَوَدًا.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} إنَّمَا كَانَ حُكْمًا لِمَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ وَهُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فَإِنَّهُ دَعْوَى لِنَسْخِ حُكْمٍ ثَابِتٍ فِي الْقُرْآنِ بِلَا دَلَالَةٍ، وَلَيْسَ فِي نَسْخِ التَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ وَإِثْبَاتِهِ بِالرَّحِمِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ هَذَا الْحُكْمِ، بَلْ هُوَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمِيرَاثِ.
وَعَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ مَا كَانَ التَّوَارُثُ بِالْهِجْرَةِ قَدْ كَانَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ الْقَرَابَاتِ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ قَاطِعَةً لِلْمِيرَاثِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ فَقَدْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِأَسْبَابٍ أُخَرَ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ دِيَةً وَاجِبَةً لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ أَقْرِبَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِيرَاثُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مُهْمَلًا لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ، فَلَمَّا لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ دِيَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ لَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَلَا لِغَيْرِهِمْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ مُبْقًى عَلَى حُكْمِ الْحَرْبِ لَا قِيمَةَ لِدَمِهِ؛ وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} يُفِيدُ أَنَّهُ مَا لَمْ يُهَاجِرْ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ بَاقٍ عَلَى حُكْمِهِ الْأَوَّلِ فِي أَنْ لَا قِيمَةَ لِدَمِهِ وَإِنْ كَانَ دَمُهُ مَحْظُورًا؛ إذْ كَانَتْ النِّسْبَةُ إلَيْهِمْ قَدْ تَصِحُّ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ بَلَدِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ رَحِمٌ بَعْدَ أَنْ يَجْمَعَهُمْ فِي الْوَطَنِ بَلَدٌ أَوْ قَرْيَةٌ أَوْ صُقْعٌ، فَنَسَبَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ إذْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِيَارِهِمْ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا قِيمَةَ لِدَمِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، فَإِنَّهُ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} فَجَعَلَهُمْ مُؤْمِنِينَ مَعَ إقَامَتِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ، وَأَوْجَبَ عَلَيْنَا نُصْرَتَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ} وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ صَحِيحًا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَلتُّجَّارِ دُخُولُ دَارِ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَأَنْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُرْتَدِّينَ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُ أَحَدٍ.
فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ وَعَبْدَانُ الْمَرْوَزِيِّ قَالَا: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الشُّعَبِيِّ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ إلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ» فَإِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ لَحِقَ بِهِمْ مُرْتَدًّا عَنْ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ إبَاقَ الْعَبْدِ لَا يُبِيحُ دَمَهُ، وَاللَّحَاقُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَدُخُولِ التَّاجِرِ إلَيْهَا بِأَمَانٍ فَلَا يُبِيحُ دَمَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ مَنْ أَصَابَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَلِمَ بِإِسْلَامِهِ أُقِيدَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ لِدَمِهِ قِيمَةً لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فِي وُجُوبِ بَدَلِهِ فِي الْعَمْدِ وَدِيَتِهِ فِي الْخَطَإِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ فِي الْخَطَإِ شَيْءٌ كَذَلِكَ حُكْمُ الْعَبْدِ فِيهِ.
وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِدَمِ الْمُقِيمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إسْلَامِهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إلَيْنَا وَكَانَ مُبْقًى عَلَى حُكْمِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورَ الدَّمِ أَجْرَوْهُ أَصْحَابُنَا مُجْرَى الْحَرْبِيِّ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ مُتْلِفِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ دَمَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ مَالِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى مُتْلِفِ نَفْسِهِ.
فَمَالُهُ أَحْرَى أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ ضَمَانٌ، وَأَنْ يَكُونَ كَمَالُ الْحَرْبِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ وَلِذَلِكَ أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ مُبَايَعَتَهُ عَلَى سَبِيلِ مَا يَجُوزُ مُبَايَعَةُ الْحَرْبِيِّ مِنْ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
وَأَمَّا الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجْرَاهُ مُجْرَى الَّذِي أَسْلَمَ هُنَاكَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ إقَامَتَهُ هُنَاكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْأَمَانِ وَهُوَ مَقْهُورٌ مَغْلُوبٌ، فَلَمَّا اسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ قَاتِلِهِمَا؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ أَقْسَامِ الْقَتْلِ وَأَحْكَامِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْقَتْلُ يَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: وَاجِبٌ، وَمُبَاحٌ، وَمَحْظُورٌ، وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مَحْظُورٍ وَلَا مُبَاحٍ.
فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَهُوَ قَتْلُ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُحَارِبِينَ لَنَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرُوا فِي أَيْدِينَا بِالْأَسْرِ أَوْ بِالْأَمَانِ أَوْ الْعَهْدِ، وَذَلِكَ فِي الرِّجَالِ مِنْهُمْ دُونَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يُقَاتِلْنَ وَدُونَ الصِّغَارِ الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ، وَقَتْلُ الْمُحَارِبِينَ إذَا خَرَجُوا مُمْتَنِعِينَ وَقُتِلُوا وَصَارُوا فِي يَدِ الْإِمَامِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَقَتْلُ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا قَاتَلُونَا، وَقَتْلُ مَنْ قَصَدَ إنْسَانًا مَحْظُورَ الدَّمِ بِالْقَتْلِ فَعَلَيْنَا قَتْلُهُ، وَقَتْلُ السَّاحِرِ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ رَجْمًا، وَكُلُّ قَتْلٍ وَجَبَ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ؛ فَهَذِهِ ضُرُوبُ الْقَتْلِ الْوَاجِبِ.
وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَهُوَ الْقَتْلُ الْوَاجِبُ لِوَلِيِّ الدَّمِ عَلَى وَجْهِ الْقَوَدِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْعَفْوِ، فَالْقَتْلُ هاهنا مُبَاحٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ وَكَذَلِكَ قَتْلُ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا صَارُوا فِي أَيْدِينَا، فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِبْقَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَأَمْكَنَهُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ وَبَيْنَ أَنْ يَأْسِرَ.
وَأَمَّا الْمَحْظُورُ فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى أَنْحَاءٍ: مِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَوَدُ، وَهُوَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ عَمْدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ الْعَارِي مِنْ الشُّبْهَةِ، فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ فِي ذَلِكَ؛ وَمِنْهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوَدِ، وَهُوَ قَتْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ وَقَتْلُ الْأَبِ ابْنَهُ وَقَتْلُ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُعَاهَدِ وَمَا يَدْخُلُهُ الشُّبْهَةُ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ؛ وَمِنْهَا مَا لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَقَتْلُ الْأَسِيرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَتْلُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ؛ هَذِهِ ضُرُوبٌ مِنْ الْقَتْلِ مَحْظُورَةٌ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ فِيهَا شَيْءٌ غَيْرُ التَّعْزِيرِ.
وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُبَاحٍ وَلَا مَحْظُورٍ فَهُوَ قَتْلُ الْمُخْطِئِ وَالسَّاهِي وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُ فِيمَا سَلَفَ.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: «هُوَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يُقْتَلُ خَطَأً فَتَجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ»، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: «أَرَادَ وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ الْمَقْتُولُ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَكَانُوا لَا يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ الذِّمِّيِّ» وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ مُقْتَضٍ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ كَافِرًا ذَا عَهْدٍ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إضْمَارُ الْإِيمَانِ لَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ذَكَرَ الْإِيمَانَ فَقَالَ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَوَصَفَهُ بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ لَاقْتَضَى الْإِطْلَاقُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنَا؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَافِرَ الْمُعَاهَدَ تَجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ، وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْآيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكَافِرُ الْمُعَاهَدُ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هَلْ فِيهِ كَفَّارَةٌ؟
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَنَصَّ عَلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ؛ وَذَكَرَ قَتْلَ الْعَمْدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، وَقَالَ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، وَخَصَّهُ بِالْعَمْدِ؛ فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَتِيلَيْنِ مَذْكُورًا بِعَيْنِهِ وَمَنْصُوصًا عَلَى حُكْمِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِيهِمَا؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ قِيَاسُ الْمَنْصُوصَاتِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ؛ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ الْكَفَّارَةُ»؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَفِي إثْبَاتِ الْكَفَّارَةِ فِي الْعَمْدِ زِيَادَةٌ فِي حُكْمِ النَّصِّ، وَغَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ؛ وَأَيْضًا فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْكَفَّارَاتِ قِيَاسًا وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ.
وَأَيْضًا لَمَّا نَصَّ اللَّهُ عَلَى حُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَتِيلَيْنِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْخَلَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» فَمُوجِبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْعَامِدِ مُدْخِلٌ فِي أَمْرِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ فَهِيَ فِي الْعَمْدِ أَوْجَبُ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مُسْتَحَقَّةً بِالْمَأْثَمِ فَيُعْتَبَرُ عِظَمُ الْمَأْثَمِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُخْطِئَ غَيْرُ آثِمٍ، فَاعْتِبَارُ الْمَأْثَمِ فِيهِ سَاقِطٌ؛ وَأَيْضًا قَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُجُودَ السَّهْوِ عَلَى السَّاهِي، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِدِ وَإِنْ كَانَ الْعَمْدُ أَغْلَظَ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ ضَمْرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْلَةَ عَنْ الْعَرِيفِ بْنِ الدِّيلِيِّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ يَعْنِي النَّارَ بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقْ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ».
قِيلَ لَهُ رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهَانِئُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَخِي إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي عَبْلَةَ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِالْقَتْلِ؛ وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُ مِنْ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.
وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ عَلَى مَا رَوَاهُ ضَمْرَةَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَأْوِيلٌ مِنْ الرَّاوِي فِي قَوْلِهِ: «أَوْجَبَ النَّارَ بِالْقَتْلِ» لِأَنَّهُ قَالَ: يَعْنِي بِالْقَتْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ رَقَبَةَ الْقَتْلِ لَذَكَرَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، فَلَمَّا لَمْ يَشْرِطْ لَهُمْ الْإِيمَانَ فِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ؛ وَأَيْضًا فَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُعْتِقُوا عَنْهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ عِتْقُهَا عَنْهُ؛ وَأَيْضًا فَإِنْ عَتَقَ الْغَيْرُ عَنْ الْقَاتِلِ لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ.
قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} جَعَلَ اللَّهُ مِنْ صِفَةِ رَقَبَةِ الْقَتْلِ الْإِيمَانَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا تُجْزِي إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِتْقُ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْكَافِرَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ قَدْ صَارَتْ شَرْطًا فِي الْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً لَمْ تُجْزِهِ الْكَافِرَةُ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا مَقْرُونَةً بِصِفَةٍ هِيَ قُرْبَةٌ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْكُفَّارِ الذِّمِّيِّينَ وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا، وَكَذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ صِفَةً زَائِدَةً، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُجْزِي إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَعَ الْإِمْكَانِ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَوْجَبَ صَوْمَ شَهْرٍ مُتَتَابِعٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ التَّفْرِيقُ لِإِيجَابِهِ إيَّاهُ بِصِفَةٍ هِيَ قُرْبَةٌ، فَوَجَبَتْ حِينَ أَوْجَبَهَا كَمَا وَجَبَ الْمَنْذُورُ مِنْ الصَّوْمِ.
قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إذَا صَامَ بِالْأَهِلَّةِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النُّقْصَانُ، وَأَنَّهَا إنْ كَانَتْ نَاقِصَةً أَوْ تَامَّةً أَجْزَأْته، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ»، فَأَمَرَ بِاعْتِبَارِ الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ وَأَمَرَ عِنْدَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ بِاعْتِبَارِ الثَّلَاثِينَ؛ وَإِنْ ابْتَدَأَ صِيَامَ الشَّهْرَيْنِ مِنْ بَعْضِ الشَّهْرِ اُعْتُبِرَ الشَّهْرُ الثَّانِي بِالْهِلَالِ وَبَقِيَّةُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ بِالْعَدَدِ تَمَامُ ثَلَاثِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْأَهِلَّةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ صَوْمِهِ بِالْهِلَالِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
أَنَّهَا بَقِيَّةُ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ وَرَبِيعٍ الْأَوَّلَ وَبَقِيَّةٍ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرَ، فَاعْتُبِرَ الْكَسْرُ بِالْأَيَّامِ عَلَى التَّمَامِ وَسَائِرُ الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ؛ وَقَوْلُهُ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} مَعْلُومٌ أَنَّهُ كَلَّفَنَا التَّتَابُعُ عَلَى حَسْبِ الْإِمْكَانِ، وَفِي الْعَادَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْلُو مِنْ حَيْضٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ: «تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ»، فَأَخْبَرَ أَنَّ عَادَةَ النِّسَاءِ حَيْضَةً فِي كُلِّ شَهْرٍ؛ فَإِذَا كَانَ تَكْلِيفُ صَوْمِ التَّتَابُعِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهَا فِي الْعَادَةِ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ لَا حَيْضَ فِيهِمَا سَقَطَ حُكْمُ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَلَمْ يَقْطَعْ حُكْمَ التَّتَابُعِ وَصَارَتْ أَيَّامُ الْحَيْضِ بِمَنْزِلَةِ اللَّيْلِ الَّذِي لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهَا تُسْتَقْبَلُ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: «إذَا مَرِضَ فِي الشَّهْرَيْنِ فَأَفْطَرَ اسْتَقْبَلَ» وَقَالَ مَالِكٌ: «يَصِلُ وَيُجْزِيهِ» وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ فِي الْعَادَةِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِلَا مَرَضٍ وَلَا يُمْكِنُهَا ذَلِكَ بِلَا حَيْضٍ.
وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ حُدُوثَ الْمَرَضِ لَا يُوجِبُ الْإِفْطَارَ بَلْ الْإِفْطَارُ بِفِعْلِهِ، وَالْحَيْضُ يُنَافِي الصَّوْمَ لَا بِفِعْلِهَا، فَأَشْبَهَ اللَّيْلَ وَلَمْ يَقْطَعْ التَّتَابُعَ.
قَوْله تعالى: {تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ} قِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْنَاهُ اعْمَلُوا بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ لِلتَّوْبَةِ مِنْ اللَّهِ؛ أَيْ لِيَقْبَلَ اللَّهُ تَوْبَتَكُمْ فِيمَا اقْتَرَفْتُمُوهُ مِنْ ذُنُوبِكُمْ.
وَقِيلَ إنَّهُ خَاصٌّ فِي سَبَبِ الْقَتْلِ، فَأَمَرَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً مِنْ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} وَالْمَعْنَى: وَسَّعَ عَلَيْكُمْ وَسَهَّلَ عَلَيْكُمْ. اهـ.